[مقطع من رواية “وطن” لتوني موريسون (نيويورك، كنوبف، ٢٠١٢) التي ستصدر بالعربية بترجمة سنان أنطون قريباً.]
التنفس. كيف يقوم به بحيث لا يعرف أحد بأنه مستيقظ. يفبرك شخيراً عميقاً منتظماً ويترك الشفة السفلى تتدلى. والأهم هو أنّ الجفنين يجب ألا يتحركا ولا بد من وجود نبض منتظم ويدين رخوتين. في الثانية صباحاً، عندما فحصوا ليتأكدوا مما إذا كان بحاجة إلى حقنة مهدئة أخرى، رأوا المريض على الطابق الثاني في الحجرة رقم ١٧، غارقاً في نوم المورفين. إن اقتنعوا، فقد يعدلون عن زرق الحقنة ويرخون القيود حول يديه كي تستمتعا بقليل من الدم. إن السر في تقليد ما يشبه الغيبوبة، كالتظاهر بالموت عندما يكون المرء مستلقياً على وجهه في أرض معركة موحلة، يكمن في التركيز على شيء محايد. شيء يفني أي إشارة عشوائية إلى الحياة. فكّرَ بالثلج، بمكعب منه، قطعة جليد، بحيرة مغطاة بالجليد أو منظر طبيعي مغطى بالثلج. كلا. فهناك كم من العواطف مرتبط بالتلال المتجمدة. النار إذاً؟ أبداً. إنها نشطة أكثر من اللازم. سيحتاج شيئاً لا يحرّك أي مشاعر ولا يشجّع أي ذكرى- حلوة أو مخزية. كل شيء كان يذكّره بشيء محمّل بالألم. تصوّر ورقة بيضاء كان يقود أفكاره إلى الرسالة التي استلمها- تلك التي خنقت بلعومه: “تعال بسرعة. ستموت هي إن تأخرّت.” في النهاية، اختار الكرسي الذي كان في زاوية الغرفة ليكون الشيء المحايد. من خشب البلوط. صقيل أو مبقّع. كم ضلعاً في ظهر الكرسي؟ هل كان المقعد منبسطاً أو محنياً لمؤخرة ما؟ مصنوع باليد أم بماكنة؟ إذا كان مصنوعاً باليد، من كان النجّار ومن أين جاء بالخشب؟ لا أمل! الكرسي يثير أسئلة، بدلاً من اللامبالاة الخاوية. ماذا عن المحيط في يوم غائم كما يُرى من على متن سفينة جنود- لا أفق ولا أمل بأفق؟ كلا. ليس هذا، لأن بعض أترابه قد يكونون من بين الأجساد التي تبرد تحت. عليه أن يركز على شئ آخر- سماء في ليلة، بلا نجوم، أو، ربما أفضل، سكك حديد. لا مناظر ولا قطارات، سكك بلا نهاية ولا شيء غيرها.
كانوا قد أخذوا قميصه وجزمتيه لكن سرواله وجاكيتة الجيش (ولا واحد منهما أداة صالحة للانتحار) معلقان في الخزانة. كل ما كان عليه أن يفعله هو أن ينزل إلى الممر باتجاه باب الخروج الذي لم يقفلوه بعد أن نشب حريق وماتت ممرضة ومريضان. هذه القصة التي حكاها كرين، المُعين الثرثار الذي يعلك بسرعة وهو يغسل إبطي المريض. لكنه كان يعتقد بأنها قصة تغطّيعلى استراحات التدخين التي كان يأخذها العاملون. كانت خطة هروبه الأولي هي أن يضرب كرين عندما يجئ ثانية لينظف فضلاته. كان هذا يتطلب إرخاء القيود وكان يعتمد على الحظ أكثر من اللازم، لذلك اختار استراتيجية أخرى.
قبل يومين، عندما كان مكبّلاً بالسلاسل في المقعد الخلفي في سيارة دوريّة الشرطة، أمال رأسه بأقصى ما يمكن ليعرف أين كان وإلى أين يذهب. لم يكن في هذه الحارة من قبل، مركز المدينة كان منطقته. لم يبرز شيء محددا ما عدا ضوء النيون العنيف في علامة اسم مطعم وفي علامة كبيرة في حديقة كنيسة صغيرة: أي إم أي زايون. إذا نجح في اختراق مخرج الحريق فسيتجه هناك: إلى زايون. مع ذلك، فعليه، قبل الهرب، أن يحصل على حذاء بطريقة ما. المشي بلا حذاء إلى أي مكان في الشتاء سيضمن اعتقاله وإرجاعه إلى المستشفى إلى أن يتم الحكم عليه بتهمة التسكّع. مثير قانون التسكّع هذا، ومعناه الوقوف في الخارج أو المشي بلا هدف محدد في أي مكان. حمْلُ كتاب سيساعد، لكن أن يكون المرء حافياً سيتناقض مع “الهدف.” والوقوف بلا حركة قد يؤدى إلى شكوى “التسكّع.” والأكثر من هذا كله، فهو كان يعرف بأنه ليس من الضروري أن يكون المرء في الخارج لإثارة اضطراب بشكل قانوني أو غير قانوني. يمكن أن تكون في الداخل، أن تعيش في بيتك لسنين، ومع ذلك، سيجبرك رجال، يحملون شارات أو بدون شارات، لكنهم دائماً يحملون أسلحة، ويجبرون عائلتك وجيرانك على حزم الأمتعة والرحيل- بأحذية أو بدونها. قبل عشرين عاماً، عندما كان في الرابعة، كان لديه زوج أحذية، مع أن كعب إحدى الفردتين كان يقرقع مع كل خطوة. أمر الساكنون في خمسة عشر بيتاً بالخروج من حارتهم الصغيرة في طرف المدينة. قيل لهم: أربع وعشرون ساعة، وإلّا. “إلا” تعني “ستموتون.” كان الوقت في الصباح الباكر عندما جاءت الإنذارات، لذا كان حساب اليوم: اضطراب، وغضب، وحزم أمتعة. بحلول الليل كان معظمهم يخرجون- على عجلات إن توفرت، أو على أقدامهم. ومع ذلك، وبالرغم من التهديدات من الرجال، الذين يرتدون القماش على رؤوسهم والذين لا يرتدونه، والتوسلات من الجيران، فكان رجل عجوز اسمه كروفرد قد جلس على درجات السلّم المؤدي إلى بيته ورفض أن يخلي المكان. انتظر طوال الليل، كوعاه على ركبتيه ويداه مشبوكتان وهو يمضغ التبغ. بعيْد الفجر، في اللحظة الأخيرة ضربوه بالأنابيب وبأخمص البنادق حتى مات، ثم ربطوه بأقدم شجرة ماغنوليا في المقاطعة، تلك التي كبرت في حديقته هو، ربما كان حبه لتلك الشجرة، التي كان يفتخر بأن أم جدته هي التي زرعتها، هو ما جعله بهذا العناد. في ظلام الليل، تسلل بعض الجيران الهاربين وعادوا ليحلوا وثاقه ويدفنوه تحت شجرته الحبيبة. قال أحد الذين حفروا القبر لكل من يسمع بأن عيني السيد كروفورد كانتا قد اقتلعتا.